• ١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢٨ ربيع الثاني ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الصبر له حدود وشروط

فهمي هويدي

الصبر له حدود وشروط

نتلقى في مصر هذه الأيام دروساً يومية في وجوب الصبر وفضائله، وسواء كان ذلك استجابة للتوجيه التعبوي الذي يقتضيه الحال، أو أنّه اجتهاد من جانب وعاظ هذا الزمان، الذين يعتلون منابر المساجد أو يطلون علينا من خلال شاشات التليفزيون، فالشاهد أنّ الصبر مسكن مطلوب بشدة هذه الأيام، حتى أزعم أنّه صار واجب الوقت، وهو ما يدعونا لأن نغفر مؤقتاً للوعاظ المذكورين تشددهم فيه وحماسهم له، الذي يصل أحياناً إلى حد توبيخنا وتقريعنا والتشكيك في ولائنا واتهامنا بالكفر بالنعمة.

ذلك كلّه أفهمه، ومستعد لافتراض حسن النية فيه والتفرقة بين التصبير والتخدير، إلّا أنّني أنبه إلى أنّ الصبر له شروط كما أنّ له حدوداً.

وقبل أن أشرح ما عندي في هذا الصدد استشهد برأي الصحابي أبي ميمون، الذي تقول المراجع التاريخية إنّه كردي وأنّه نسب إلى ابنه ميمون، وقد نقل عنه قوله «إنّ من شروط الصبر أن تعرف كيف تصبر؟ ولمن تصبر؟ وماذا تريد بصبرك؟ وتحتسب في ذلك وتحسن النية فيه لعلّه أن يخلص لك صبرك. وإلّا فإنما أنت بمنزلة البهيمة نزل بها البلاء فاضطربت لذلك ثم هدأ فهدأت. فلا هي نقلت ما نزل بها فاحتسبت وصبرت. ولا هي صبرت، ولا هي عرفت النعمة حين هدأ ما بها، فحمدت الله على ذلك وشكرت».

إذا جاز لي أن أصوغ ذلك الرأي بلغة زماننا فلعلي أقول بأنّ الصبر المجاني الذي يغيب عنه الفهم وتنعدم فيه الرؤية وتفتقد العبرة هو صبر البهائم التي تمتثل للكرب فلا تعي منه شيئاً إذا نزل، ولا تعتبر منه إذ انقشعت سحابته ورحل، ولئن قيل إنّ للصبر حدوداً، فإنّ له أيضاً شروطاً، وهو يطمئن النفوس ويرطب الجوانح إذا اقترن بعاملين هما الثقة والأمل.

إذا صح ذلك التعريف فإنّه يدعونا إلى طرح السؤال حوال حظوظنا من الثقة والأمل، وما إذا كانت تعيننا على الصبر راضين، أو تلجؤنا إليه مرغمين وكارهين، وللأسف فإنّه بعد تأميم المجال العام في مصر، وفي ظل الشعار التقليدي الذي يعلن على الدوام أنّ «كلّه تمام» فإنّه لم تعد لدينا إحصاءات ولا بيانات محايدة يُطمأن إليها بشأن وضع الثقة ونسبة الأمل لدى شرائح المجتمع، لكن المتواتر أنّ ثمة تراجعاً مشهوداً في مؤشرات الحريات العامّة والممارسات الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، وتلك شهادة ذائعة في تقارير المنظمات الحقوقية المستقلة في مصر، وكذلك المنظمات الدولية.

وهو ما ينسحب على الحرب التي أعلنت على منظمات المجتمع المدني أو إساءة استخدام القانون بالتوسع في الاعتقال بدعوى الحبس الاحتياطي، ثم العصف بأحكام القضاء ونصوص الدستور الذي تجلى في موافقة الحكومة على إحالة اتفاقية تيران وصنافير إلى البرلمان رغم صدور حكم المحكمة الإدارية ببطلان التوقيع على الاتفاقية واعتبارها في حكم المنعدمة.

أضف إلى ذلك الصدمات التي تلقاها المجتمع جراء مفاجأته بمضاعفة الأسعار وتعويم الجنيه، وهي عوامل بددت حلم الدولة المدنية والديمقراطية الذي راود الجميع منذ ثورة ٢٠١١ وتجدد مع هبة ٣٠ يونيو ٢٠١٣، وكذلك فإنّه بدد حلم الرخاء الموعود الذي قيل إنّه سيتم بعد سنتين، ثم تجدد الوعد بظهور ثماره بعد ستة أشهر أخرى

وحين يبدو الأفق مسدوداً أمام احتمالات الإصلاح السياسي تارة والإصلاح الاجتماعي تارة أخرى، فإنّ التعبير في هذه الحالة يبدو نداء فارغ المضمون أقرب إلى التخدير.

إنّ المجتمع المصري إذا أريد لصبره أن يكون صحياً وفي الحدود الآمنة، فينبغي أن تستعاد له الثقة في الحاضر والأمل في المستقبل، أما إذا لم يحدث ذلك فإنّ الأمر يصبح مغامرة غير مأمونة العاقبة، وعلى من شبكنا أن يخلصنا كما يقول مقطع الأغنية الشهيرة.

ارسال التعليق

Top